رياضة صباحية




رياضة صباحية

محمد بابان


مِثلما اِعتَدْتُ عليه، استيقَظْتُ باكِراً هذا اليومَ أيضاً.  
كانت ولا زالتْ نسماتُ الليلِ الباردة تتهامس ناعماً مع شباك غرفتي، و زقازيق العصافيرِ قد بدأت تعلن حلول شفقٍ جديد . 

خَرَجتُ الى الشارع ماراً بالباحةِ الامامية للمنزلِ المتهالكِ على تاريخه.
ها هو ذا الشارع الذي يمتد كجثة هامدة امامي، ساكناً صامتاً، تملأهُ اوراقُ الشجر المتساقطة التي قاومت غدر الخريف و استسلمت لرياح ليلة أمس، تماماً كما حدث لشَعْرُ رأسي الذي غَلِبَ خريف العمر و استسلم لنكسة الروح.

فجرٌ شتويٌ أشبه ما يكون بشتاء عمري الملئ بالعصيان.

ذلك العصيان الذي يشعرني بالغثيان من كل الثورات التي قُدتُها ضد نفسي و لم تعطيني غير ذا الاحساس الملعون الذي يشعرني بالضياع، فلم أكن اعلم ما أنا فاعلٌ؟ و الى أين المسير؟

فجر ما بعد ليلةٍ  تراقصت بذاكرتي كل لحظات الشقاء التي مررت بها ايام نزفي، و استسلَمَتْ فيها أحلامي لذاك الارق المارق. 

أوَ ليس الفجرٌ يَتْبَعَهُ الشروق، فَلِمَ كل الاشياء توحي بالمغيب؟.

و لِمَ تَجْتَمِعُ كل الاضداد هنا؟  هنا حيث اللا منتهى من الشقاء.

 لا اعلم ما الذي ايقظها هي ايضاً، و لكنها قد سبقتني برشفة. وجودها هناك في الشرفة الامامية المغلقة، تحت الاضواء المنعكسة من مصابيح الشارع، و في هذا التوقيت، يوحي بان ليلتها لم تكن احسن من ليلتي.

الليل؟ عن اي ليل اتحدث انا؟ منذ زمن ليس بقريب قد الغيت التعابير الزمنية و الاسماء المترادفة بالزمن، فكل الاوقات متشابهة، و كل الازمان متساوية، نحن فقط نهرب الى السُكَينةَ حين تخذلنا ارواحنا في حربها الضروس مع همومنا، نركُنُ الى اقل الاماكن و الازمنةِ تذكيرا بما نعانيه، فنحن حين نعشق شيئاً نخلق له مع كل ما حولنا قصةً، و مع كل توقيتٍ تذكيرٌ، و عند الخذلان نحاول الخلاص منها دفعةً واحدة، أوَ لَمْ نفعل ذلك؟ ألم نلتمس الظلام ؟ ألم نُغَطي أعيوننا بكلتا أيدينا؟ ألم نضع الوسادة على آذاننا؟

كانت تشرب قهوتها بشئ من القلق، و تضرب برؤوس اصابعها حافة طاولة الصنوبر، لا يكاد يصل الفنجان الـى شفتها حتى ترجعه الى الطاولة قبل ان ترتشف من قهوتها شيئاً. مرتبكة و خائفة  كعادتها، ربما من المواجهة، او لربما تكون خجلة من وجودي في مملكتها.

للقهوة قوة تذكير تغلب النسيان، قلما ترتبط ذاكرة القهوة بالذكريات السعيدة، فهي لون السواد، تسرد لنا اشد لحظات حزن مسيرتنا، تمنحنا ذلك الحزن الذي نشتاق نسيانه، و كلما زادت مرورة طعمها تزداد مرارة ذكرياتنا، نعشق اكثرها سواداً و مرارةً حين تكون آلامنا قد استباحت ارواحنا. إن لإمتزاج مرارة القهوة و مرارة الذكريات سحرٌ اسودٌ لا يدركه غير من يعرف كيف يرتشفها و كيف يجعل لِعَبِقِ رائحتها مسارا من الفنجان الى المخيخ.

 تزيح بنظرها عني و انا اغادر بصمت باحة المنزل، ربما لانها تعلم اني سأرجع، و سأستحمل هذه الندبة ايضاً، أو لعل حضوري لديها اصبح غير ذي مغزاه.

 قذفت برجلي خارج الدار و بدأْتُ مشواري الشبه يومي. مبتعداً رويداً رويداً عن الدفء، لأقترب من  بيت العجوزة التي تملك كلباً  بحجم أسد في باحة منزلها.
سيبدأ بالنباح مثلما في كل مرةٍ اعبر بجوار مملكته، و يتهيأ لي انه سينجح في إحدى المرات من التغلب على السلسلة الحديدية التي تمسك برقبته، و سيسلخ جلدي و ينهش لحمي منتشياً كيفما يشاء، يا للحظة التي طالما إِنْتَظَرَهُ.

في حركةٍ غير متوقعة، اِلْتَفَتُ الى الخلف قبل أن يبدأ الكلب بتكشير انيابه عليَّ، لأجدها تقف خارج البرندة و تراقبني، ربما لتستمتع برؤية تمزيق الكلب لجسدي في المرة التي سيحدث فيها ذلك. لست متأكداً هل التقت عينانا أو توهمت ذلك و لكن منذ مدة ليست بقريبة لم تلتقي نظراتنا، و لا اكاد اتذكر آخر مرة اطرقت اصواتنا اسماع بعضنا.  

استدرت صوب الشارع الممتد بين بيت جدي القديم و بيت جدها، حيث اللقاء الاول و الخطيئة الاولى، لا يزال عبق هذا اللقاء يملأ أركان مخيلتي. ترتسم ابتسامة خجولة على محياي بمجرد المرورهنا، فالذكريات الجميلة تبقى جميلة حتى لو اختلفنا مع من جمعتنا بهم.

تابعت مسيرتي و استسلمت لشهوة الهروب، و خطت قدماي ما طاب لها من الشوارع و الارصفة، لم اكن مهتماً كم من الوقت تستغرق تلك الرحلة الصباحية اليومية التي اسميها مستهزءآً احياناً بالرياضة الصباحية، و لكن يبدو انها اخذت من عمري الكثير فقد  زقزقت العصافير و اشرقت الشمس  و ربما غربت ايضاً و شارفت على الشروق من جديد !!. يا للدورة الشمسية اللعينة و كل ما يحدث بين شروقها و غروبها.


 توقفتُ لبرهة و رفعت رأسي مجدداً لأجدها هناك في الشرفة المغلقة حيث تركتها، تشرب قهوتها بشئ من القلق،  و تضرب برؤوس اصابعها حافة طاولة الصنوبر،............،  أُهيمُ بالخروج من الدار مجدداً، ...............،  فتزيح بنظرها عني و انا اغادر بصمت باحة الدار، ربما لانها تعلم اني سأرجع،.......

........... وسيبدأ ينبح مثلما في كل مرةٍ اعبر بجوار مملكته ........

............ ربما لتستمتع برؤية تمزيق الكلب لجسدي ..........

............ بيت جدي القديم و بيت جدها ..........

............ الخطيئة الاولى ............

لأجدها هناك حيث تركتها.


بابان 2018












تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

روايات

هل معك سكر؟

الصمت " نسخة غير منقحة"